طب الأسنان في حضارات العراق القديمة
في قلب حضارات وادي الرافدين، وخصوصًا في العصر الأكدي، ظهرت ملامح مبكرة من الطب والعلاج، لم تقتصر على الجسد فقط، بل وصلت حتى إلى الأسنان.
وتُعد حضارة الأكديين من أبرز الحضارات التي تركت آثارًا مكتوبة عن التداوي، ومن بينها ما يُعتبر اليوم أقدم وصف لعملية حشو جذور في التاريخ.
الحادثة التي وقعت في عهد سرجون الأكدي
حوالي سنة 2300 قبل الميلاد، خلال حكم الملك سرجون الأكدي، ورد في أحد الألواح الطينية نص طبي غريب لكنه دقيق، يروي قصة أحد رجال البلاط الذين اشتكوا من ألم شديد في السن، وصف بأنه “ينزف بلا جرح، ويشتعل كالنار”.
قام الطبيب أو الكاهن المعالج بـ”فتح السن، وتنظيفه من الداخل، ثم حشوه بمادة سوداء عطرية”، في ما يبدو وكأنه أول عملية موثقة لحشو السن من الداخل – ما يُشبه اليوم بعلاج العصب أو حشو الجذور (Root Canal).

المواد المستخدمة في الحشو
تشير بعض الترجمات إلى أن المادة المستخدمة كانت مزيجًا من الراتنج الطبيعي والزيت العطري، وربما أضيف إليها مسحوق نباتي لتسكين الألم. هذا الخليط كان يُستخدم ليس فقط لتغطية السن، بل لإغلاق التجويف الداخلي ومنع تطور العدوى، وهي نفس الفكرة العلاجية المستخدمة في العصر الحديث.
من الذي كشف هذه القصة؟
يعود الفضل في الكشف عن هذه التفاصيل المذهلة إلى العالم العراقي الدكتور طه باقر (1912–1984)، أحد أبرز علماء الآثار والدراسات المسمارية في القرن العشرين.
قام الدكتور طه بترجمة ونشر عدد من الألواح التي وُجدت في مناطق أثرية مثل نينوى وأكد، وساهم في تسليط الضوء على تقدم العلوم الطبية في وادي الرافدين.

لماذا تعتبر هذه الحادثة مهمة؟
هذه القصة لا تُعتبر مجرد واقعة طبية، بل شهادة حيّة على:
وعي الإنسان القديم بالبنية الداخلية للأسنان.
المحاولات الجدية لعلاج الألم بشكل جذري وليس مؤقتًا.
تقدم حضارات العراق القديمة في مجالات الطب والعلاج.
خاتمة
إن طب الأسنان لم يبدأ مع أجهزة الليزر ولا أدوات الحفر الحديثة، بل بدأ قبل آلاف السنين، حين جلس معالج أكدي إلى جانب مريض في قصر سرجون، وبدأ بحفر سنّه المؤلم ليخفف عنه معاناة صامتة.
قصة تُظهر أن جذور التقدّم أعمق مما نظن وأن العراق كان، وما زال، مهدًا للعلم والإنسانية.